كما وان رمضان شهر العبادة والأخلاق، فإنه أيضاً شهر العمل والجهاد. فلا تتوقف مسيرة العمل في رمضان لأن مفهوم العبادة في الإسلام يشمل العمل أيضاً، وبالتالي فإن الأعمال التي يؤديها الإنسان تكون جزءاً من عبادته لله تعالى، ولعل في طليعة الأعمال الجهاد في سبيل الله للدفاع عن حياض الأمة ودينها، وحمايتها من خصومها وأعدائها.
لقد شهد رمضان أعظم المواقع التي كانت مفصلاً تاريخياً مهماً، فتعززت شوكة هذا الدين، وتكرست مفاهيم العدالة والمساواة والحرية . ولعل أهم هذه المواقع:
1- غزوة بدر الكبرى: وقد كانت في السابع عشر من رمضان وقد خرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لملاقاة عير لقريش كانت قادمة من الشام إلى مكة، كي يسترد حقوق المسلمين التي سلبت منهم عندما فروا بدينهم من مكة مهاجرين إلى المدينة. لقد أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم استرداداً للحقوق أو لبعضها، ولكن الله تعالى أرادها نفيراً، فكانت معركة قوية بين المسلمين الأوائل وفي مقدمتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، وقد قاتلت الملائكة إلى جانب المسلمين، فانهزم الشرك وولى مدبراً {
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم : 47 ] . {
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] . لقد تحقق النصر بفضل الله أولاً، وبفضل الثقة بالله ثانياً، وبالقيادة التي تمثلت بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ثالثاُ. لقد كانت ثقة كبيرة لا تهزمها الجيوش الجرارة، وتجلت في قبول خوض البحر والصحراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم دون تردد رغم قلة العدد وضعف الإمكانيات على مستوى العدة والتجهيز، لكنها الثقة بالله وبالرسول وبقيادته الحكيمة.
لم يعرف المسلمون في بدر معنى للتردد، كما وأنهم لم يعرفوا معنى للشك. لقد وقفوا كالجبال الراسيات فكانوا حوالي ثلاثمئة وأربعة عشر جبلاً وليس رجلاً فحسب، بينما كان المشركون حوالي الألف من الذين ترددوا ووهنوا فكان النصر حليف المؤمنين . وحري بهذه الأمة اليوم أن تجدد ثقتها بربها ، ولا تتردد في خيار الدفاع عن حقوقها ومقدساتها، وأن تتعاطى مع الأحداث بحكمة العاقل لا بشجاعة المتهور، ولن يترنا الله أعمالنا.
2- فتح مكة: في العاشر من رمضان دخلت جيوش المسلمين مكة المكرمة. دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس عشرة آلاف مجاهد من كل أرجائها، وارتفعت صيحات التكبير من بلال فوق البيت العتيق معلنة بزوغ فجر جديد لمكة ولمحيطها، بل للعالم، إنه فجر الإسلام الذي أراد الله به إسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.
لقد جاءها رسول الله مع المسلمين قبل عامين من الفتح معتمراً، لكنه رُدّ، وعقد الصلح مع اهلها في الحديبية، وقد سمّاه الله فتحاً. لم يدرك أحد في وقتها أن الفتح صنع في تلك اللحظات التي كانت تخط فيها الأنامل تلك الوثيقة، لكن الله تعالى قال: {
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [ الفتح : 1 ] . ونزلت هذه الآيات بعد الصلح. ثم بعد عامين وبعد إخلال قريش وحلفائها بعقد الاتفاق المبرم معهم، وبعد اعتدائهم على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حانت ساعة التخلـّص من الأصنام ومن هذه الذهنية التي تقدّس الموروث دون التفكر في أسبابه، استعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهّز قوة من عشرة آلاف مجاهد وأتى بها مكة فاتحاً معلناً مكة حرماً مقدساً آمناً ومدينة للسلام والأمان والإيمان.
لقد جسّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفتح كل معاني وقيم الرسالة التي حملها، لقد قال لأهلها وهم الذين آذوه وأخرجوه وقاتلوه وعذبوا أصحابه، قال لهم: (
ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا : اخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ابن هشام. إنها عظمة الرسالة، وقوة الانتصار على الذات، كي تتجذر مفاهيم السعادة التي أرادها الإسلام، لا الانتصار على الغير والتشفي لتكريس مفاهيم الأحقاد والضغائن والثأر. لقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظات كل المفاهيم الجاهلية وأولها الغدر والخيانة والثأر والحقد، وأرسى قيم المحبة والتسامح والتكافل وحفظ الدماء وهي قيم أساسية في الإسلام. لقد كان فتح مكة تحوّلاً جذرياً لواقع عاش طويلاً على مفاهيم الظلم والاستبداد والاستضعاف إلى واقع باتت العدالة والمساواة معياره الأول.
سابعاً: الخاتمة
إن رمضان شهر قد اختصه الله بهذه الميزات فأنزل فيه كتابه، ونصر نبيه، فانكسرت شوكة المشركين في بدر، وتحررت مكة من أعباء الحمل الثقيل التي كانت تنوء تحته. ثم إن الله ضاعف فيه الأجر والثواب في كل العبادات، وجعله مدرسة عظيمة نتعلم فيها الكثير من المعاني المتصلة بأخلاقنا اليومية. ولذلك قيل لو يعلم الناس ما في رمضان من الخير لتمنوا ان تكون السنة كلها رمضان، فحري بنا في الشهر المبارك أن نستلهم كل هذه المعاني لنجدد الثقة بالله، والبيعة لرسوله فيكتب لنا الأجر ، ولأمتنا النصر والتمكين وما ذلك على الله بعزيز.
--------------------------